الرئيسية / مقالات / هل تعتقد أنك تدرك حقا ما يدور حولك من أحداث؟

هل تعتقد أنك تدرك حقا ما يدور حولك من أحداث؟

أ. د. / أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم

أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – مصر

 

في عام 1998، أجرى باحثون من جامعة هارفارد وجامعة كينت دراسة استهدفت أفرادا مشاة في الحرم الجامعي لتحديد إلى أي مدى يلاحظ الناس بيئاتهم المباشرة. في هذه التجربة، جاء شخص (أحد فريق البحث) إلى أحد المشاة العابرين في الحرم الجامعي وسأله عن مكان ما داخل الجامعة. وبينما كان الشخص يصف للسائل كيفية الوصول إلى هذه المكان، جاء رجلان يحملان بابا خشبيا كبيرا ومرَّا من بينهما، بطريقة حجبت تماما رؤيتهما لبعضهما البعض لعدة ثوان. وخلال ذلك الوقت، تم استبدال هذا الشخص (الباحث) بآخر مختلف تماما في الشكل والطول والهيئة والزي. ولم يلاحظ نصف المشاركين في هذه التجربة عملية الاستبدال. كانت التجربة من أولى التجارب التي أوضحت ما يسمى بظاهرة “عمى التغيير” (عمى عدم الانتباه الناشئ عن تغير المشهد)، والتي تظهر مدى انتقائية ما نلاحظه من أي مشهد بصري معين، يبدو أننا نعتمد على الذاكرة ونمط الإدراك أكثر بكثير مما نعتقد!

يحدث “عمى التغيير” عندما يكون الشخص غير قادر على ملاحظة التغيرات البصرية في بيئته، على الرغم من أنها غالبا ما تكون واضحة إلى حد كبير.

تعزى هذه الظاهرة إلى حدود قدرة الدماغ على تذكر الصور المعقدة في نطاق واسع. على سبيل المثال، قد نتذكر صور المتاجر في شارع مزدحم بالمحلات والمطاعم، ولكننا قد لا نلحظ أن أسماء المتاجر قد تغيرت، وذلك لأن الدماغ لا يمكنه أن يعالج كل العناصر المدركة دفعة واحدة ولأن الانتباه يعطي الأولوية لما نعتقد أنه مهم. وقد تحدث هذه الظاهرة أيضا بسبب حدوث التغيير في المشهد بشكل تدريجي، وفي بعض الأحيان إذا تملك الفرد شعور بالثقة الزائدة.

ركزت التجارب المبكرة حول عمى التغيير على الذاكرة والإدراك عند عرض الصور. على سبيل المثال، قد يُعرَض لشخص صورة فوتوغرافية لمشهد في شارع، ثم يطلب منه ملاحظة الصورة. بعد ذلك، تُعرَض عليه الصورة نفسها مع إضافة بعض العناصر أو الحذف منها، ويطلب منه تحديد ما هو مختلف. في كثير من الأحيان لا يتمكن الفرد من تذكر  عدد من العناصر البارزة في الصورة.

في 1990، أجرى الباحث دانيال سيمونز دراسة مثيرة في عمى التغيير الذي يراه الكثيرون أمر لا يصدق. في هذه الدراسة، طلب سيمونز من المشاركين مشاهدة شريط فيديو لكرة السلة. وطلب منهم التركيز على التمريرات بين اللاعبين، وأثناء التجربة كان هناك رجل يرتدي رأس غوريلا يمر بين اللاعبين. وعندما انتهت التجربة، وجد سيمونز أن نصف المشاهدين لم يلحظوا “الرجل الغوريلا” نهائيا رغم وضوحه التام في إطار الشاشة، وعندما أعيد لهم الفيديو الذي يظهر فيه الرجل الغوريلا أنكروا ذلك وقالوا إن الباحث قد بلد الفيديو بآخر! وخلص الباحث إلى أن المشاركين يعانون من “العمى غير المتعمد” (عدم قدرة الفرد على رؤية أشياء واضحة رغم عدم وجود أي قصور بصري لديه).

بعيدا عن مجال علم النفس، عندما أدخل فن تحرير الأفلام في صناعة أفلام السينما بدأ المحررون يلاحظون أن التغييرات في الخلفية لم تكن تلاحظ من قبل مشاهدي الفيلم. 

إن ضعف قدرة الناس على اكتشاف التغييرات يعكس حدود قدرة الإنسان على الانتباه. وأصبح عمى التغيير موضوعا بحثيا مهما للغاية، وذهب الباحثون إلى أنه قد يكون له تضمينات عملية مهمة للغاية في مجالات مثل شهادة شهود العيان، وانحرافات السيارات التي تؤدي إلى حوادث أثناء القيادة.

وهناك بعض الآثار الفريدة لهذه الظاهرة  في مجال الإعلان. أكبر الدروس هي أن الناس أقل ملاحظة مما يعتقد المسوقون! هذا مهم بشكل خاص في الإعلانات البصرية، حيث محدودية الوقت المخصص للفوز بانتباه الجمهور. ونحن نعلم أيضا أن الدماغ من المرجح أن يتجاهل أي شيء قد يبدو مألوفا.

هناك أيضا تضمينات مهمة لاختبار الإعلانات. يمكن أن تؤدي التغييرات الصغيرة في تصميمات الإعلانات إلى تحقيق نتائج كبيرة. يمكن أن يؤدي الاختبار الوصول إلى العنوان الرئيسي الأكثر مناسبة، وإلى الخلفية والرسوم المتحركة الأكثر تأثيرا، ومن ثم إنشاء إعلانات تحقق أداء أفضل. ومن خلال فهم عمى التغيير وآثاره، يكون المعلنون مستعدون لاختبار التغيرات. إن اختبار مفاهيم الإعلانات المختلفة، بشكل منتظم، هو الطريقة الوحيدة لتجاوز عمى التغيير والتأكد من أن رسالة الإعلان تصل إلى الجمهور بشكل مستمر. كما يمكن أن تجنب المعلنون إنفاق أموال طائلة على خلفيات غير مؤثرة وقد لا ينتبه إليها المشاهد على الإطلاق!

أيضا هذه النتيجة لها تضمينات مهمة للغاية في علم نفس الجريمة وفي تقييم شهادات شهود العيان، وتدعو المحامين والقضاة إلى ضرورة النظر في تقييم دقة بعض الشهادات على نحو سليم.

عن admin

شاهد أيضاً

كيف تبني مقياس دراستك؟

هناك عدد من الممارسات الضرورية لتصميم مقاييس الدراسات المسحية، وهي تتضمن ست خطوات: الخطوة 1: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page